تولى قيادة جيش المجاهدين أفضل وأشجع الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،
وأمر منادياً ينادي بذلك، ثم خرج في ألف وستمائة من المقاتلين الذين عشقوا الشهادة في سبيل الله وفيهم مائتا فارس ، وأثناء خروجه صلى الله عليه وسلم نادت النساء: يا رسول الله نريد أن نخرج معكم، ورغم أن هذه الغزوة كانت صعبة، وكانت حرب حصون، إلا أن النبي قال: نعم .. على بركة الله، وخرج مع الرجال 20 امرأة، وولَّى على المدينة سِبَاعَ بن عُرْفُطَةَ الغفاري.
ومما زاد من قوة الجيش الاسلامي القوة الايمانية حيث كان المسلمون على علم مسبق بأن النصر حليفهم وان خيبر سوف تفتح لأن الله قد وعدهم بذلك مع عدم الاستهزاء بقوة اليهود بأخذ الدرس من غزوة احد والمدهش في غزوة خيبر أن النبي خرج ب 1400 مقاتل ليواجه عشرة آلاف مقاتل من يهود خيبر الأقوياء. وقد قامت خطة النبي على فهمه لاستراتيجية اليهود التي تقوم على الحرب الدفاعية وعدم استعدادهم لخوض معارك الصحراء المكشوفة
إضافة الى ذلك افتخار اليهود بحصونهم حيث اعتقدوا ان حصونهم مانعتهم من الله ويستعصى غزوها او الحاق الهزيمة بهم وقد سجل الواقدي نظرة اليهود الى هذه المدينة بقوله : وكان من كان بالمدينة من اليهود يقولون للمسلمين حين تجهز الرسول صلى الله عليه وسلم الى خيبر ما امنع والله خيبر منكم لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل ان تصلوا اليهم/ ، حيث ان المسلمين استفادوا من اعتزاز اليهود بقوتهم هاته وبدأوا بالتخطيط لمفاجأتهم.
5- القيادة المثلى في مواجهة تحالف المنافقين واليهود:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف من خيانة المنافقين في داخل المدينة المنورة، حيث أن المنافقين كانوا يتعاملون مع اليهود، وكانت العلاقة بينهما حميمة من أيام بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والآن ثبت أنهم يتعاملون أيضًا مع يهود خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد من المنافقين أن يخرجوا معه في هذا الجيش فماذا يفعل؟ فهو لا يستطيع أن يقول للمنافقين لا تخرجوا؛ لأن النفاق هذا أمر قلبي، فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج إلى خيبر إلا من شهد صلح الحديبية، وبذلك ضمن أن كل من سيشارك في فتح خيبر سيكون من المؤمنين؛ لأن هذه المجموعة التي شاركت في صلح الحديبية جميعها من المؤمنين كما قال الله عز وجل: [لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ]
وخرج الجيش الإسلامي، وكما توقع الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل المنافقون إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بل شجّعوهم على قتال المسلمين، حيث ارسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول إلى يهود خيبر قائلا لهم :" أنّ محمداً قصد قصدكم وتوجه إليكم فخذوا حذركم ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عُزَّل لا سلاح معهم إلا قليل"، ووصلت الرسالة إلى أهل خيبر واستعد أهل خيبر، ولم يكتفوا بالاستعداد والتحصن، بل أرسلوا أحد زعماء اليهود وكان اسمه كنانة بن أبي الحُقَيْق، وهو أخو سلام بن أبي الحقيق الذي قتل قبل عدة أشهر على أيدي المسلمين، فأرسلوا هذا الرجل إلى قبائل غطفان، وهي قبائل مرتزقة، وتقاتل من أجل الأموال، وعرضوا عليهم المال؛ لكي يساعدوهم ويعاونوهم في حرب المسلمين، وعرضوا عليهم نصف ثمار خيبر، وبالفعل بدأت قبائل غطفان في الاستعداد للخروج في اتجاه خيبر، وأعدوا جيشا كبيرا جدا لهذا الأمر، وبفضل الله اكتشفت مخابرات الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التحرك لغطفان، وبسرعة أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم عدة قرارات حتى يأمن عملية اجتياح خيبر:
1- أخرج رسول الله سرية بقيادة أبان بن سعيد رضي الله عنه في اتجاه أعراب نجد حتى يثير الرهبة في هذه المنطقة، فلا تجرؤ غطفان ولا غير غطفان على مهاجمة المدينة المنورة؛ لأن المدينة كما نعلم خالية تقريبا من الرجال، فأمّن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك المدينة المنورة.
2- أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية في الشمال الشرقي إلى ديار غطفان؛ ليوهم جيش غطفان أنه سيغزو ديار غطفان وليس ديار اليهود، وأمر هذه السرية أن تظهر أمرها وأن تظهر شأنها، ولا تتخفى، وتحدث صوتا عاليا حتى تلفت أنظار جيش غطفان ويعودوا إلى ديارهم، ولا يشتركوا مع يهود خيبر في الدفاع عن خيبر، وبالفعل عندما سمع جيش غطفان وراءه الصوت انطلق مسرعا راجعا إلى دياره، وترك يهود خيبر في حرب الرسول صلى الله عليه وسلم منفردين.
3- وغيّر الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق المعروف لدخول خيبر، وأخذ بعض الأدلة لتدله على طريق آخر؛ ليدخل خيبر من شمالها وليس من جنوبها، لأننا نعرف أن المدينة المنورة في جنوب خيبر، فبدلا من أن يدخل خيبر من الجنوب، دخلها من الشمال، وحقق بذلك شيئين:
أولا: سيحول بين غطفان وبين خيبر بجيشه.
ثانيا: سيمنع اليهود من الفرار إلى الشام، فيحصر اليهود في منطقة خيبر؛ لأن الطريق إلى الشمال سيكون مغلقا بالجيش الإسلامي.
فكان التخطيط العسكري على أعلى مستوى، وتظهر في الجيش الإسلامي ملامح الجيش المنصور، فالجيش بكامله من المؤمنين الصادقين كما رأينا، حتى لو كان هؤلاء قلة، فإنهم ينتصرون بإذن الله عز وجل، والجيش كله مرتبط ارتباطا وثيقا، ويجمعهم رباط العقيدة، ونحن قد رأينا غطفان وهي تتخلى عن اليهود؛ لأنه لا يجمعهم غير المصالح الدنيوية، أما الجيش الإسلامي الذي يتكون من قبائل الأنصار والمهاجرين وغير ذلك من القبائل التي دخلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، يجمعهم الإيمان بالله عز وجل، والحرص على الشهادة في سبيل الله.
أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب، وأعد الخطة والعدة والخطط البديلة، وتغيير الاتجاه وإرسال العيون، وبذلك أخذ المسلمون بأسباب النصر المادية.
6- المسلمون يتوجهون إلى خيبر:
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش وكان اسم أحدهما: حُسَيْل ـ ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام، كما يحول بينهم وبين غطفان.
قال أحدهما: أنا أدلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل حتى انتهي إلى مفرق الطرق المتعددة وقال: يا رسول الله، هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً. قال: اسم واحد منها حزن، فأبي النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه، قال: اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضاً، وقال: اسم الآخر حاطب، فامتنع منه أيضاً، قال حسيل: فما بقي إلا واحد. قال عمر: ما اسمه؟ قال: مَرْحَب، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه.
اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من خيبر، وكان هذا الاقتراب في الليل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته ألا يقاتل بالليل، فكان ينتظر حتى يأتي الفجر، ثم يقاتل بعد الفجر ، فاختار مكانا قريبا من خيبر وعسكر فيه، وكان هذا المكان قريبا من مجموعة حصون موجودة في خيبر اسمها حصون النطاة، ولكن جاء إليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه، وقال له إن هذا المنزل قريب من حصن النطاة، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بَيَاتهم، وأيضا هذا المكان بين النخلات وهو غائر وأرض وخيمة، ومن الممكن أن يتسلل اليهود من خلال النخيل ولا يدرك المسلمون هذا التسلل، ولو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكرا. فقال صلى الله عليه وسلم: أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ.
وغيّر المسلمون المكان إلى المكان الذي أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه، وهو نفس الموقف الذي قام به الحباب قبل ذلك في موقعة بدر، وبذلك نرى عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ بمبدأ الشورى، وأخذ الرأي، وكيف كان ذلك سببا في النصر، وبالفعل استقر الرسول صلى الله عليه وسلم وجيشه في المكان الجديد.
7- إعطاء الراية لعلي بن أبي طالب:
قام الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس، وقال لهم: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا لَرَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. إنه الرجل الذي يفتح الله على يديه البلاد، ويمكن له في الأرض، وينصره على أعدائه، وفي اليوم الثاني قام كل الصحابة رضوان الله عليهم متشوقون لحمل هذه الراية، فقال صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فقال الناس: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، فأرسل رسول الله إلي علي بن أبى طالب، وكان عنده رمد في عينيه، وكان لا يرى إلا بصعوبة، وقال الناس: يا رسول الله، إنه مريض في عينيه. وأصرّ الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك على الإتيان بعلي رضي الله عنه وأرضاه، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم على عينيه من ريقه، وسبحان الله، برئ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأصبح يرى كأن لم يكن به أي مرض، وأعطاه صلى الله عليه وسلم الراية، وكان الجميع يرون أن ظروف علي بن أبي طالب لا تسمح له بالقيادة، ولكن الله عز وجل يسّر له ذلك الأمر.
واقترب الجيش الإسلامي من لحظة البداية، وصلى المسلمون الصبح، وبدأ بعدها الجيش الإسلامي في التحرك في اتجاه خيبر، وكان اليهود حول حصون خيبر يزرعون في المزارع، فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش معه، فقالوا: محمد والله محمد والخميس. يعني الجيش الكبير ورجعوا هاربين إلى مدينتهم، وأغلقوا الأبواب عليهم...وصاح الرسول صلى الله عليه وسلم صيحة عالية سمعها الجيش بكامله، وسمعها كذلك اليهود فقال: (الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
وهذه الكلمات كانت تلقي بظلال هامة على الجيشيْن الإسلامي واليهودي؛ لأنه يُذَكّر المسلمين بأن النصر من عند الله عز وجل، ويذكرهم بالله عز وجل قبل أن يبدءوا القتال ثم إنه يقول لهم إن الله عز وجل هو الناصر وهو أكبر من أي عدو، وإن كنتم ترون حصون خيبر وسلاح خيبر وأعداد خيبر أكثر بكثير من المسلمين، فإن الله عز وجل معنا، وهو ناصرنا عليهم إن شاء الله، وهذا الأمر قد رفع الروح المعنوية عند المسلمين، وذكرهم بأيام الله عز وجل وبانتصارهم في بدر والأحزاب، أما اليهود فقد ألقت هذه الكلمات الرعب في قلوبهم.
8- دعوة اليهود الى الاسلام كفرصة اخيرة:
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم علي رضي الله عنه ان يقوم بدعوة اليهود الى الاسلام وهنا يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن إسلام هؤلاء اليهود أحب إلينا من أموالهم ومن ديارهم، وأحب إلينا من سلطانهم، وأحب إلينا من كل شيء، فمع كل التاريخ الأسود لليهود، ومع كل المحاولات المضنية التي بذلوها لاستئصال المدينة المنورة، إلا أن الرسول صلى الله عليه كان حريصا أكبر الحرص على إسلامهم وعلى هدايتهم إلى الاسلام.
وهنا لا يجب أن يقول قائل إنه لا إكراه في الدين لماذا يدعوهم إلى الإسلام، ثم إذا رفضوا حاربهم، إن الحرب هنا ليست عقابا لليهود على تركهم للإسلام، وليست عقابا لهم على رفض الدعوة الإسلامية، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء من المدينة المنورة إلى خيبر ليعاقب اليهود على جرائمهم المتعددة السابقة وعلى تحزيبهم الأحزاب، وحصارهم للمدينة المنورة وعلى تخابرهم مع المنافقين في داخل المدينة المنورة، وعلى محاولتهم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى تحفيزهم لغطفان أكثر من مرة على حرب المسلمين، فلذلك قرر أن يقاتلهم وأن يعاقبهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يعطيهم فرصة أخيرة ليرفعوا عن أنفسهم العقاب الذي يستحقونه، فقال: إن أسلمتم رفعنا عنكم العقاب، ونسينا كل ما سبق، وهذه سعة صدر ورحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اليهود رفضوا هذه الدعوة، ورفضوا دعوة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لدخولهم في الإسلام، وقرروا الحرب واغتروا بقوتهم وأعدادهم وحصونهم.
9- المبارزة بين عامر بن الأكوع رضي الله عنه ومرحب اليهودي:
لم يستجب اليهود لدعوة المسلمين لهم بالدخول في الإسلام، وأصروا على القتال، بل أخرجوا أحد قادتهم الكبار ليحارب المسلمين، وكانت عادة الحروب القديمة، أن يبدأ القتال بمبارزة بين فارسين من كلا الجيشين، والمنتصر في هذه المبارزة يعطى دفعة معنوية كبيرة لفريقه إن انتصر في هذه اللحظات الأولى من القتال، أخرج اليهود أحد أبطالهم، وكان من أشد الفرسان في تاريخ العرب بصفة عامة، وهذا الرجل كان اسمه مرحب وكان رجلا عملاقا ضخم الجثة، وخرج للقتال وطلب المبارزة فخرج له عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه وسرعان ما دارت المبارزة بين الاثنين، وضرب عامر بن الأكوع رضي الله عنه مرحبا اليهودي ضربة كبيرة، ولكن الضربة طاشت ولم تصل إلى مرحب، وأكملت الطريق إلي رُكبة عامر فَقُتل بسيفه، فاستشهد رضي الله عنه وأرضاه
فقال الصحابة قد قتل نفسه، وتأثر الصحابة رضوان الله عليهم من هذا الموقف، بل وصل الأمر أن بعض الصحابة قالوا حبط عمله وكأنه قتل نفسه بإرادته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم علق بعد ذلك على هذه الحادثة وأثنى على عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه وقال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ. وجمع بين إصبعيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ- أي أنه مجتهد في العلم والعبادة والعمل- قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلُهُ. يعنى أي نادرا من العرب الذي مشى في أرض المعركة مثل عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، ولكن ما حدث كان في الحقيقة أزمة، وحدث نوع من الهزة عند المسلمين، ورفع الروح المعنوية عند اليهود
ووقف مرحب القائد اليهودي يطلب القتال من جديد بعد أن ارتفعت معنوياته في هذه اللحظات الأولى من القتال، فخرج له البطل الإسلامي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه حامل راية المسلمين في موقعة خيبر، ودار بينهما قتال شديد عنيف ثم مَنّ الله عز وجل على علي بن أبي طالب بالنصر، كما تنبأ بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل علي بن أبي طالب مرحبا، وكان قتله إشارة كبيرة إلى أن النصر سيكون للمسلمين إن شاء الله؛ لأن هذا الرجل كان أقوى رجل في اليهود، وكان اليهود لا يتخيلون أبدا أن يقتله أحد المسلمين، وخرج أخو مرحب وكان اسمه ياسر وكان يريد الثأر لأخيه، وكان من عمالقة اليهود أيضا، خرج يطلب القتال فخرج له الزبير بن العوام رضي الله عنه، واستطاع الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه أن يقتل ياسرا أخا مرحب وكان ذلك بداية الانتصار للمسلمين.
10- احتدام القتال وسقوط حصن ناعم في يد المسلمين:
احتدم اللقاء بين الجيش الاسلام وبين اليهود، فهذا اللقاء لم يكن ساعة أو ساعتين، ولكنه استمر لعدة أيام متصلة، وهذا غريب في عرف القتال، فكما رأينا قبل ذلك في بدر وفي أحد وفي غيرها كان اللقاء يوما واحدا، ولكن في هذا اللقاء الشديد دام القتال أيامًا لاقى المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين حتى ترك اليهود حصن ناعم فارغا للمسلمين، وكان هذا التسلل ليلا، وانتقلوا إلى الحصن الذي وراءه وتحصنوا في حصن الصعب بن معاذ، واحتل المسلمون حصن ناعم وكانت هذه إضافة كبيرة للجيش الإسلامي في موقعة خيبر، فهل اكتفى صلى الله عليه وسلم بهذا النصر في هذه المعركة؟
لا لأن الرؤية عند الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة تماما، فقد جاء لينتقم من أفعال اليهود وخياناتهم المتكررة للمسلمين، وليخرج اليهود من خيبر كما أخرج قبل ذلك يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة من المدينة المنورة، وتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلي حصن الصعب.
11- فتح حصن الصعب بن معاذ :
توجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ، وكان هذا الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، حيث قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار لكن وقع الجيش الاسلامي في أمر صعب إلى جوار صعوبة الحرب، وهو أمر الجوع، حيث دخل المسلمون في جوع شديد لدرجة أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء فالموقف أصبح حرجا للغاية.
وعندما ازداد الجوع على المسلمين قام بعض رجال الجيش الإسلامي بذبح بعض الحمير للأكل، والحقيقة أن العرب كانت تأكل الحمير في ظروف معينة، ولم يكن الأمر محرما على المسلمين في ذلك الوقت، ونصبوا القدور، ولم يكن هذا بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم النيران مشتعلة قال: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ فقالوا: يا رسول الله نوقد هذه النيران على لحم. فقال: أَيُّ لَحْمٍ؟ فقالوا: لحوم الحُمُر. يعني لحوم الحمر التي تستخدم في النقل، وهذه الحمير لم تكن محرمة على المسلمين حتى هذه اللحظة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الصعب قام ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال: إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتف بتحريم الأكل من لحوم الحمر الإنسية وإنما قال: أَرِيقُوهَا. يعنى أريقوا كل القدور وبكل ما فيها من مرق اللحوم واكْسِرُوهَا؛ ليختفي كل أثر لهذه اللحوم فسأل بعض الصحابة أنريقها ونغسلها يعني بدل الكسر نغسل القدور فقال صلى الله عليه وسلم: أَوْ ذَاكَ.
وقبل صلى الله عليه وسلم بغسل القدور، إن هذا التحريم جاء في وقت يحتاج فيه الجيش إلى هذا الأكل، ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى أن موقف الصحابة لم يصل بعد إلى موقف الاضطرار، أي ما زالت هناك فرصة أن يعيشوا بدون طعام فترة من الزمان، وإلا اضطر المسلمون لأكل أي شيء حتى الميتة وهذا مباح في أوقات الضرورة فقط، إنها التربية الإيمانية العالية، وهذه من أعظم أسباب النصر، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة حيث قال: (اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا).
وبفضل لجوء المسلمين إلى الله عز وجل، جاء النصر من السماء، ففي اليوم التالي فتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وهذا من أغنى حصون خيبر بالطعام والشراب، وما لذ من ألوان الطعام المختلفة، ووجدوا فيه الطعام والودك كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الناس وشبعوا اظافة الى ذلك فقد وجد المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات فاستكملوا الحرب وتوجهوا الى قلعة الزبير.
12- فتح قلعة الزبير:
كما نرى فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفرض الحصار عند كل حصن ، وكان اليهود عند هزيمتهم في كل حصن ينتقلون الى الحصن الموالي والحقيقة أن هذه الحصون كانت مبنية بمهارة عجيبة، فكل حصن يسلم إلي الحصن التالي، فبعد ان فتح الرسول صلى الله عليه وسلم حصن ناعم والصعب انتقل اليهود الى قلعة الزبير وهي الحصن الثالث في المنطقة .
وحصن قلعة الزبير من أمنع الحصون أيضا في هذه المنطقة وكما يقول الرواة لا تقدر عليه الخيل والرجال؛ لأنه فوق قمة جبل ومن الصعب الوصول إليه، وفرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الحصار، وظل الحصار ثلاثة أيام، ثم ألقى الله عز وجل الرعب في قلب رجل من اليهود فأتى وتسلل من الحصن، وجاء إلي الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الأمان، وقال له: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم شرابا وعيونا تحت الأرض يخرجون بالليل ويشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم دون أن يشعر المسلمون بهم. وقال اليهودي: فإن قطعت مشربهم عليهم خرجوا لك. لأنهم لا يستطيعون أن يعيشوا من غير ماء فوصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه المياه وقطعها عن اليهود، فخرجوا إليه وقاتلوا قتالا شديدا، واستمر القتال حتى انتصر المسلمون وافتتحت قلعة الزبير، وكان القتال في منتهى الضراوة حيث قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود ، وبذلك تمت السيطرة كل حصون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود، ثم توجهوا إلى حصون منطقة الشق وبدءوا بحصن أبي.
13- اليهود ينتقلون إلى حصون منطقة الشق:
إنتقل اليهود إلى المنطقة الثانية وهي منطقة الشق وتحصنوا بأولى حصونها، وهو حصن قلعة أبي، ففرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء، وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجري قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار.
ويعتبر حصن نزار هو الحصن الخامس وآخر حصن في الشطر الأول، ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم محاصرا لهذا الحصن عدة أيام، ولكن هذا الحصن كان أمنع حصون هذا الشطر مطلقا؛ لذلك وضع اليهود في هذا الحصن أطفالهم ونساءهم وأموالهم، و ظن اليهود أنه من المستحيل أن يفتح، وبالفعل استمر الحصار فترة طويلة من الزمان بالقياس بالحصون التي من قبله، وما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفتح الحصن وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه. أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة.
وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طريقة جديدة في الحرب فقد أخرج المنجنيق، وكان المسلمون قد استولوا على المنجنيق من بعض الحصون اليهودية السابقة، ويقال إنها كانت في حصن الصعب بن معاذ، ونصب الرسول صلى الله عليه وسلم المنجنيق وبدأ يضرب حصن نزار، حتى أحدث المسلمون خللا في داخل بعض الجدارن في هذا الحصن، ومن هذا الخلل تسلل المسلمون إلى داخل الحصن، ودار قتال من أعنف أنواع القتال في معركة خيبر الرهيبة، وكما ترون استمر اللقاء فترة من الزمان، وانهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخري، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وكتب الله عز وجل النصر للمسلمين للمرة الخامسة، وفتح المسلمون الحصن العظيم حصن النزار.
وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخري إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر.
14- سقوط حصون الكتيبة في يد المسلمين:
هرب اليهود إلى حصون المنطقة الأخرى، وكان اسمها حصون الكتيبة، وتركوا خلفهم النساء والأطفال وكل شيء، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منطقة الكتيبة، وهي منطقة واسعة وفيها ثلاثة حصون كبيرة، وهي القموص وحصن الوطيح وحصن السلالم، وكانت هذه الحصون من الحصون المنيعة، وتحصن فيها اليهود، ولكن اليهود كانت قد أصابتهم هزيمة نفسية كبيرة؛ نتيجة للهزيمة في أكثر من موقعة في خيبر، لأن خيبر لم تكن مجرد لقاء عابر، فقد دار القتال في عدة مواقع متتالية في مكان واحد حصن تلو الحصن كما نرى، حتى فتح المسلمون خمسة حصون صعبة دون هزيمة واحدة.
وإختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام، أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال.
ومهما كان، فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح.
15- اليهود يطلبون الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
طلب اليهود بعد عدة أيام أن ينزلوا الى الصلح، وأن يدخلوا في نوع من المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل صلى الله عليه وسلم أن يتفاوضوا في هذا الأمر، وكان الذي نزل للتفاوض هو كنانة بن أبي الحُقيق أخو سلام بن أبي الحقيق الذي قتله المسلمون قبل ذلك، وقال كنانة بن أبى الحقيق أنزل فأكلمك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم.
فنزل ودار بينهما حوار طويل، وكانت خلاصة المفاوضات في صالح المسلمين مائة في المائة، فقد صالح اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم على حقن دمائهم، ودماء كل من في الحصون من المقاتلة و الذرية والنساء على أن يتركوا خلفهم الديار والسلاح والأموال والذهب والفضة، ويخرجوا فقط بملابسهم في أكبر هزيمة من هزائم اليهود مطلقا، والحقيقة أن الانتصار كان كبيرا بالنسبة للمسلمين، وشرط الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة عليهم شرطا هاما فقال: وَبَرِأَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللًَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَتَمْتُونِي شَيْئًا. أي لو أن اليهود أخفوا أي شيء من الأموال أو من الذهب أو الفضة، فيجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتلهم بهذا الإخفاء للمال أو للذهب أو للفضة، وبالفعل قبلوا هذا الأمر، وبدأ اليهود بالخروج من خيبر.
وقد اكتشف الرسول صلى الله عليه وسلم أن كنانة بن أبي الحقيق قد أخفى مالا، وذكر له ذلك أحد اليهود، فأتى بكنانة بن أبي الحقيق...وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَخْفَيْتَ مَالًا؟ فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَكَ أَأَقْتُلُكَ ؟ قال: نعم.
فأمر صلى الله عليه وسلم بالبحث في أرضه، وكان أحد اليهود قد عين مكانا معينا، وقال إن كنانة أخفى المال في ذلك المكان، سبحان الله وبحثوا في هذا المكان فوجدوا كنزا كبيرا من المال،، ثم سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عما بقي، فأبى أن يؤديه. فدفعه إلى الزبير، وقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه نتيجة مخالفته للمعاهدة التي كانت مع المسلمين، وسبيت امرأة كنانة بن أبي الحقيق.
16- ما غنمه المسلمون في خيبر:
كانت غزوة خيبر من أكثر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم غنيمة، من حيث الأراضي والنخيل والثياب والأطعمة وغير ذلك، ومن خلال وصف كتب السيرة نلاحظ أن الغنائم تتكون من:
أ - الطعام: فقد غنم المسلمون كثيرًا من الأطعمة من حصون خيبر، فقد وجدوا فيها الشحم والزيت والعسل والسمن، وغير ذلك, فأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكل من تلك الأطعمة، ولم يخمسها.
ب- الثياب والأثاث والإبل والبقر والغنم، لقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسها ووضعه فيما وضعه الله فيه، ووزع أربعة أخماسها على المحاربين.
ج- السبي: لقد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من نساء اليهود، ووزع السبي على المسلمين، فهو غنيمة ويأخذ حكم الغنيمة.
د- أما الأراضي والنخيل فقد قسمها النبي إلى ستة وثلاثين سهمًا، وجمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، ووزع النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه، وما ينزل به من أمور المسلمين.
هـ- وكان من بين ما غنم المسلمون من يهود خيبر عدة صحف من التوراة فطلب اليهود ردَّها، فأمر بتسليمها إليهم، ولم يصنع صلى الله عليه وسلم ما صنع الرومان حينما فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة، وداسوها بأرجلهم، ولا ما صنع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة
وقد أبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم, ولهم نصف ثمارها، على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا، وكان اليهود قد بادروا بعرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم فوافق على ذلك بعد أن هم بإخراجهم منها.
وقد اشترط عليهم أن يجليهم عنها متى شاء، وهنا تظهر براعة سياسة جديدة في عقد الشروط، فإن بقاء اليهود في الأرض يفلحونها يوفر للمسلمين الجنود المجاهدين في سبيل الله، ومن جهة أخرى فإن اليهود هم أصحاب الأرض وهم أدرى بفلاحتها من غيرهم، فبقاؤهم فيها يعطي ثمرة أكثر وأجود وبخاصة أنهم لن يأخذوا أجرًا، ولكنهم سيأخذون نصف ما يخرج من الأرض قل أو كثر.
وقد ضمن الرسول -بشرط إجلائهم متى شاء المسلمون- إخضاعهم وكسر شوكتهم؛ لأنهم يعلمون إذا فعلوا شيئًا يضر بالمسلمين سيطردونهم منها، ولا يعودون إليها أبدًا.
17- الرسول يتزوج صفية بنت حيي بن أخطب:
كانت امرأة كنانة بن أبي الحقيق هي صفية بنت حيي بن أخطب، وتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبحت من أمهات المؤمنين، فالسيدة صفية عندما أخذت في السبي، أخذها أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، فأتى إليه أحد الصحابة وقال له: إن هذه بنت ملك ولا يجوز أن تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أن في زواج الرسول من السيدة صفية حكمة كبيرة، ومن هذه الحكمة أنه صلى الله عليه وسلم رفع درجة السيدة صفية، فهذه بنت ملك أو بنت زعيم من زعماء اليهود، وزوجة زعيم من زعمائهم، فلا يجب أن تعطى هكذا إلى أي إنسان من المسلمين، فرفع قدرها وعظم من شأنها وتزوجها هو صلى الله عليه وسلم، بعد أن أعلنت إسلامها، ثم إن هذا استمالة لقلوب اليهود عندما يكون بينهم وبين زعيم الدولة الإسلامية أو نبي هذه الأمة علاقة نسب، فهذه قد ترقق قلوب اليهود وتفتح قلوبهم للإسلام.
إضافة الى ذلك فإنه بهذا الزواج سيمنع الخلاف بين الصحابة لأن أحد الصحابة جاء إليه وقال: أعطيت دحية الكلبي هذه، فقد ينظر أحد الصحابة إلى أنه قد أعطى أحد الصحابة شيئا قد يناسب غيره أو غيره من عموم الصحابة، وبذلك قطع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وهذه كانت بداية خير كبير للسيدة صفية، وأصبحت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وروت الكثير و الكثير عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
18- اليهود يدبرون مؤامرة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم:
لم يكف اليهود بعد هزيمتهم في خيبر عن تدبير المكائد للاسلام والمسلمين، وذهبوا الى محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك عن طريق تقديم شاة مسمومة له، وأعطوا هذه الشاة لامرأة سلام بن مشكم لتعطيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دائما دأب اليهود الخيانة والغدر، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها، ولفظها، ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم)، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: (ما حملك على ذلك؟) قالت: قلت: إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبيًا فسيخبر.
واعتراف اليهود اعترافا صريحا بأنهم دبروا محاولة لقتله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم جميعا، وهذا من أبلغ مواطن الرحمة في حياته صلى الله عليه وسلم، بل إنه عفا عن المرأة التي قدمت له الشاة، وسئل مباشرة صلى الله عليه وسلم ألا تقتلها؟ قال لا، ولم يقتل المرأة، وكان أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه قد أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أكله من الشاه المسمومة، فمات بها، فلما مات بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد على المرأة التي قدمت الشاه فقتلها به، فلم تقتل في خيبر إلا امرأة واحدة؛ لأنها قتلت رجلا من المسلمين أكل من الشاة المسمومة.
19- قتلى الفريقين في معارك خيبر:
وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة من قريش وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار، ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً.
وذكر العلامة المنصورفوري 91 رجلاً، ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 32 اسما، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر، والصحيح أنه قتل في بدر.
أما قتلي اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً.
20- اليهود بعد خيبر والعودة الى المدينة:
عندما سمع اليهود الذين هم في أماكن أخرى بعيدة أو قريبة من خيبر بأنباء خيبر، بدءوا يفكرون تفكيرا جديا في التسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء اليهود يهود فدك الذين قبلوا أن ينزلوا على نفس الصلح الذي نزلت عليه يهود خيبر على أن يكون لهم النصف من الثمار على نفس المعاهدة التي تمت في خيبر، وكذلك اليهود في وادي القرى قاوموا في البداية بعض المقاومة، ثم إنهم بعد ذلك قبلوا بنفس الصلح، وكذلك يهود تيماء، وبذلك حيد المسلمون جانب اليهود تماما في الجزيرة العربية.
ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الغزوة إلى المدينة المنورة في أواخر صفر أو أوائل ربيع أول سنة 7 هـ أي أنه ظل أكثر من شهر في منطقة خيبر، كما توقع أن يقضي صلى الله عليه وسلم وقتا طويلا في خيبر، وبذلك تخلص المسلمون نهائيا من خطر اليهود.