كان المسلمون في موقف حرج؛ لأن عددهم أقل من عدد المشركين، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير كبار المهاجرين والأنصار في أمر القتال، فتكلم المهاجرون كلامًا حسنًا، أيدوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في قتال المشركين، وقال المقداد بن عمرو: (يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك) ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ظل ينظر إلى القوم، وهو يقول: أشيروا علي أيها الناس.
ففهم سعد بن معاذ كبير الأنصار أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد رأي الأنصار، فقد تكلم المهاجرون، وأيدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت كلمة الأنصار، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، لقد آمنا بك، وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لاتفاق المسلمين على مواجهة الكفار.
وبدأ الفريقان يستعدان للمعركة، وأول شيء يفكر فيه القادة هو معرفة أخبار العدو، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه؛ عليًّا وسعدًا والزبير إلى ماء بدر؛ ليعرفوا أخبار الكفار، فوجدوا غلامين لقريش، فأخذوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألهما عن عدد قريش، فقالا: لا ندري، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم من الإبل. فقالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا، وكان معروفًا عند العرب أن البعير الواحد يكفي مائة
رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القوم فيما بين التسعمائة والألف)
وهكذا يضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا في القيادة الحكيمة، والتفكير السليم لمعرفة أخبار العدو، ثم قال للغلامين: (فمن فيهم من أشراف قريش؟) فعدَّا له أشراف قريش، وسادتها، وكانوا على رأس جيش المشركين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها) وهكذا عرف الرسول صلى الله عليه وسلم عدد أعدائه، وأسماء كبارهم أيضًا، وعلى الجانب الآخر أرسل الكفار رجلاً منهم وهو عمير بن وهب ليعرف عدد المسلمين، ثم عاد فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون.
4- تنظيم الجيش و توزيع القيادات:
وصل المسلمون إلى مكان بئر بدر، فأقاموا عليه، وجعلوه خلفهم حتى يتمكنوا من الشرب دون الكفار، وأشار سعد بن معاذ على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ عريشًا (مكانًا مظللا) يشرف من خلاله على المعركة، ويقوم بإدارتها، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا له بالخير
ونظّم الرسول صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه تنظيمًا دقيقًا، فجعله كتيبتين؛ واحدة للمهاجرين عليها علي بن أبي طالب، والأخرى للأنصار ولواؤها مع سعد بن معاذ، وجعل ميمنة الجيش مع الزبير بن العوام، وجعل المقداد بن الأسود قائدًا لميسرة الجيش، وجعل على قيادة مؤخرة الجيش قيس بن صعصعة، أما القيادة العامة للجيش فكانت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد أوصاهم صلى الله عليه وسلم بالحكمة في استعمال النبال ضد أعدائهم، فلا يضربونهم حتى يكونوا في مرمى السهام وفي متناول أيديهم، ولا يستخدمون سيوفهم حتى يقتربوا منهم، وتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه ورفع يديه في خشوع وضراعة قائلاً: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك)، وظل يدعو حتى وقع رداؤه عن كتفه من كثرة الدعاء، فأشفق عليه أبو بكر، وقال له: أبشر يا رسول الله، فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك، وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة، ثم انتبه وقال: (أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بزمام فرسه عليه أداة حرب)، فقد أرسل الله ملائكته تأييدًا للمسلمين، فقال تعالى: {فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}.
وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم تكتيكا مغايرا عن الذي كانت تنتهجه العرب من قبل حيث رص الصحابة في صفوف لتعويض الفرق في ميزان القوى بينه وبين المشركين ، لأن الرص بين الصفوف يوفر قوة احتياطية عند القائد يلجأ إليها عند حدوث أي خلل، وهذه القوة يمكن الاستعانة بها لرتق الخلل أو الالتفاف على الأعداء ، وهذه الاستراتيجية يأخذ بها العلم الحديث.
ومن الأمور المبدعة التي عملها النبي في هذه الغزوة ولم تعهدها العرب من قبل هو وضعه لمركز القيادة ، حيث بُني العريش في مكان آمن يشرف منه القائد على المعركة و يسيطر على مجرياتها .
ومن الأمور المبدعة أيضاً أنه استطاع أن يُحَيّد سلاح الفرسان وذلك حين أمر الصحابة أن يبقوا في أماكنهم فإذا غشيهم المشركون رموهم بالنبل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يَعْلم أهمية الرمي ويقول دائماً : (( ألا إن القوة في الرمي )) ويعتبر الرمي في العصر الحديث من الإسناد الهام في المعارك .
5- بناء عريش القيادة:
بعد نزول النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين، اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء عريش له يكون مقرًا لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله سعد في اقتراحه: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام, يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك)، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر رضي الله عنه, وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6- الفائدة من بناء العريش:
1- لا بد أن يكون مكان القيادة مشرفًا على أرض المعركة، يتمكن القائد فيه من متابعة المعركة وإدارتها.
2- ينبغي أن يكون مقر القيادة آمنًا بتوافر الحراسة الكافية له.
3- ينبغي الاهتمام بحياة القائد، وصونها من التعرض لأي خطر.
4- ينبغي أن يكون للقائد قوة احتياطية أخرى تعوض الخسائر التي قد تحدث في المعركة
7- اعتماد مبدأ الشورى:
إن أبرز ما جاءت به غزوة بدر، تأكيد مبدأ الشورى، باعتباره مبدأً من مباديء الشريعة وأصلاً من أصول الحكم ، وصورةً من صور التعاون على الخير ، يحفظ توازن المجتمع ، ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي ، بما يخدم مصلحة الجميع
فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو المؤيّد بالوحي - استشار أصاحبه في تلك الغزوة أربع مرّات ، فاستشارهم حين الخروج لملاحقة العير ، واستشارهم عندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها ، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر ، واستشارهم في موضوع الأسرى ، وكلّ ذلك ليعلّم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش يسهم في إثرائها وتوسيع أفقها ، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة .
وإذا نظرنا إلي تخطيط النبي صلي الله عليه وسلم، وإلي استشارته لاصحابه، وإلي استغاثته بربه، ونظرنا إلى وحدة المسلمين والتفافهم حوله وصدقهم فيما عاهدوا الله عليه، نرى دروسا باهرة، يأخذها كل قائد يريد النصر، وكل أمة تجاهد من اجل إحقاق الحق، ويبهرنا مبدأ الشوري، ذلكم المبدأ العظيم الذي اخذ به سيدنا المصطفي صلي الله عليه وسلم، مع انه نبي ورسول ومع انه ملهم ويوحي اليه، ولكنه يأخذ رأي اصحابه، ولا يكرههم على الحرب اكراها ولكن يستشيرهم ويستطلع آراءهم، فيسمع من القائد الاعلى ومن آخر جندي في جيشه ما يريدون ان يشيروا به عليه، فهاهو يقول لهم: اشيروا علي أيها الناس فيلتفت الانصار ويقول قائلهم: لو خضت بنا البحر لخضناه معك ماتخلف منا احد، إنّا لصدق في الحرب صبر عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله يا رسول الله.
ويقول الآخر: يارسول الله حارب من شئت وسالم من شئت وخذ من اموالنا ما شئت واترك لنا ما شئت، فوالذي نفسك بيده ما تأخذه منا احب إلينا مما تبقيه لنا.. فاطمأن صلي الله عليه وسلم باستشارته لاصحابه على سلامة الجبهة الداخلية، واطمأن على محبة اصحابه واقتناعهم بالخروج لهذا اللقاء .
وعندما إختار الرسول صلى الله عليه وسلم مكان النزول جاء الحباب بن المنذر ليقول له: يارسول الله اهذا منزل انزلكه الله؟ أهذا عن الوحي؟ إن كان كذلك فلا كلام لنا، ولا نتقدم ولا نتأخر عنه، ام هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل الحرب والرأي والمكيدة، فقال الحباب: ارى ان لا ننزل في هذا المكان ولكن انزل إلي اقرب ماء إلي القوم حتي نغور الآبار عنه ونشرب ولا يشربون. فأخذ الرسول صلي الله عليه وسلم برأي الحباب بن المنذر.
وهنا ندرك الحكمة العالية والادب الرفيع لأصحاب رسول الله صلي الله وعليه وسلم، ما كان احد منهم ليقول برأيه في أمر نزل فيه الوحي لانه لا اجتهاد مع النص، ولذلك قال الحباب بن المنذر أهذا منزل انزلكه الله ؟، وحتي ولو كان يرى ان الافضل ان ينزل في غيره فلا كلام له، لا اجتهاد مع النص، اما اذا كان للرأي فيه مجال فإننا نبدي آراءنا الصائبة وما نراه افضل، ونراه عليه الصلاة والسلام ينزل عن رأيه ويأخذ برأي الحباب، اي احترام لمبدأ الشوري كهذا الاحترام؟ اي احترام لأهل التخصص في كل علم وفي كل فن وفي كل خبرة كما احترمها النبي الموحي إليه صلي الله عليه وسلم، على هذا النحو من الاخذ بمبدأ الشوري والاخذ بالاسباب وتجهيز الجيش وتوحيد الصفوف أعد للامر عدته، وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأخذ بمبدأ الشوري واستطلاع آراء أهل الخبرة وتجهيز الجيش وتوحيد الصفوف.
8- التكتيك الحربي الذي انتهجه الرسول في قيادة المعركة:
وقد أدار الرسول صلى الله عليه وسلم المعركة بذكاء شديد وانتهج اسلوبا جديدا في القتال لم تعهده العرب من قبل، فقد قاتل صلى الله عليه وسلم بنظام الصفوف, وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) ، فقام برص الصفوف لتعويض الفرق في ميزان القوى بينه وبين المشركين ، لأن الرص بين الصفوف يوفر قوة احتياطية عند القائد يلجأ إليها عند حدوث أي خلل بحيث يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة, وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعًا لقلة المقاتلين أو كثرتهم. وتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان, وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء، وكان من فوائد هذا الأسلوب في غزوة بدر:
1- إرهاب الأعداء ودلالة على حسن وترتيب النظام عند المسلمين.
2- جعل في يد القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم قوة احتياطية عالج بها المواقف المفاجئة في صد هجوم معاكس, أو ضرب كمينٍ غير متوقع، واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة والفرسان، ويعد تطبيق هذا الأسلوب لأول مرة في غزوة بدر سبقًا عسكريًا تميزت به المدرسة العسكرية الإسلامية على غيرها منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان وكان النبي صلى الله عليه وسلم يباغت خصومه ببعض الأساليب القتالية الجديدة، وخاصة تلك التي لم يعهدها العرب من قبل، على نحو ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بَدْرٍ، وأُحُدٍ وغيرهما.
ومن جهة النظرة العسكرية، فإن هذه الأساليب تدعو إلى الإعجاب بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وبراعته العسكرية؛ لأن التعليمات العسكرية التي كان يصدرها خلال تطبيقه لها، تطابق تمامًا الأصول الحديثة في استخدام الأسلحة
وتفصيل ذلك فقد اتبع صلى الله عليه وسلم أسلوب الدفاع ولم يهاجم قوة قريش، وكانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده بكل دقة سببًا في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر الحاسم بتوفيق الله على العدو برغم تفوقه، بنسبة ثلاثة إلى واحد , فقد كان صلى الله عليه وسلم يتصرف في كل موقف حسب ما تدعو إليه المصلحة؛ وذلك لاختلاف مقتضيات الأحوال والظروف، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم في الجانب العسكري أسلوب القيادة التوجيهية في مكانها الصحيح. أما أخذه بالأسلوب الإقناعي في غزوة بدر فقد تجلى في ممارسة فقه الاستشارة في مواضع متعددة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقود جنده بمقتضى السلطة، بل بالكفاءة والثقة، وهو صلى الله عليه وسلم أيضا لا يستبد برأيه، بل يتبع مبدأ الشورى وينزل على الرأي الذي يبدو صوابًا، ومارس صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أسلوب القيادة التوجيهية، فقد تجلى في أمور منها:
1- الأمر الأول: أمره صلى الله عليه وسلم الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم؛ لأن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة «إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل»
2- الأمر الثاني: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف «ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم»، وهذا مبدأ من مبادئ الحرب الحديثة التي تدعو إلى عدم فتح النيران على العدو حتى يصبح في المدى المؤثر للأسلحة المستخدمة
3- الأمر الثالث: أمره صلى الله عليه وسلم الصحابة بالاقتصاد في الرمي «واسْتَبْقُوا نَبْلَكم»
9- أحـــداث المعركــة:
بدأت المعركة صباح يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، العام الثاني للهجرة، وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان رجلاً شرساً سيئ الخلق - خرج قائلاً أعاهد اللَّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
وكان هذا هو الفتيل الذي أشعل نار المعركة، فقد تقدم ثلاثة من كبار المشركين وهم: عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، وطلبوا المبارزة فنهض لهم ثلاثة من الأنصار، لكن المشركين ردوهم، وأرادوا مبارزة المهاجرين، ثم نادى مناديهم قائلا: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي .. فوثبوا على أعدائهم كالأسود، وفي لمح البصر قتل حمزة شيبة بن ربيعة، وقتل علي الوليد بن عتبة، أما عبيدة فتبادل الضرب مع عتبة بن ربيعة، وجرح كل منهما الآخر، فوثب حمزة وعلي على عتبة، فقتلاه وحملا صاحبهما إلى المسلمين.
وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقد فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضباً، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد، لأنهم وجدوا انفسهم اكثر عددا وعدة من المسلمين، وظنوا أنهم يستطيعون هزيمتهم بسهولة فدخلوا في معركة حامية مع المسلمين
ولما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها، كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم، وألحقوا بهم خسائر فادحة، وخرج الرسول (ص) من موقعه يحثهم على القتال، وهو يقول: "والذي نفس محمَّد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلاَّ أدخله اللّه الجنّة" وراح الرسول (ص) يجالد المشركين بنفسه ويتقدّم الصفوف، حتّى أنَّ عليّاً-رضي الله عنه- قال عنه: "لما أن كان يوم بدر وحضر البأس، التقينا برسول اللّه، وكان أشدّ النّاس بأساً، وما كان منّا أحد أقرب إلى العدو منه"، وهنا يظهر جليا مشاركة القائد مع جنوده في المعركة.
ويظهر تأييد الله -عز وجل- لأوليائه في شهود الملائكة للمعركة، قال تعالى: { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }
وأمدّ الله المسلمين في تلك الغزوة بألفٍ من الملائكة الكرام وأمرهم بالقتال مع المؤمنين وأوحى إليهم أن يثبتوا المؤمنين ، وقال ابن عباس – رضي الله عنهما :- بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجلٍ من المشركين أمامه إذ سمع ضربةً بالسوط من فوقه ، وصوت الفارس فوقه يقول : أقدم حيزوم ، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقياً ، فنظر إليه، فإذا هو قد خُطِمَ أنفه ، وشُقَّ وجهه ، كضربة السوط ، فاخْضَرَّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة.
ووهت صفوف المشركين تحت وطأة الضغط الذي مارسه المسلمون عليهم، تدفعهم إلى ذلك موجة عارمة من الإيمان ورغبة عميقة بالاستشهاد، تؤازرهم ثلة من الملائكة المقربين، وحاول أبو جهل استنهاض قومه وقلب الهزيمة اللاحقة بهم الى نصر، ودعاهم إلى الصمود فأحاطت به فلول المشركين، ولكن هذا الحماس من المشركين لـم تصمد أمام قوّة إيمان المسلمين ورباطة جأشهم، يعززهم الإيمان الراسخ، ووقع أبو جهل نفسه في مصيدة المؤمنين، فلحقت بالمشركين هزيمةٌ ساحقة، وفرّوا لا يلوون على شيء، مخلِّفين وراءهم عدد كبيرا من القتلى والاسرى،
10- القتلى من الفريقيين:
إنتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ومنهم حارثة بن سراقة وعوف بن الحارث وسعد بن خيثمة ثم أبيه، أمّا المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون، وأسر سبعون. وعامتهم القادة والزعماء والصناديد ومن بينهم أبي جهل بن هشام المخزومي وأمية بن خلف وعبيدة بن سعيد بن العاص على يد الزبير والأسود المخزومي، ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: (بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس)، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر.
11- أخبار النصر تصل المدينة:
ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى أهل المدينة؛ ليعجل لهم البشرى، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة، وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب
فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلميـن، فَعَمَّت البهجـة والسـرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلًا وتكبيرًا، وخرج رؤوسهم يستبقون وصول رسول الله إلى المدينة، ولما وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى منطقة الروحاء، التقى بكبار رجال المدينة المسلمة، الذين قدموا له ولمن شهد بدراً معه تهانئ النصر فرحين مستبشرين بنصر الله، وهذا موقف فيه كثير من الدلالات، لقد وفد المسلمون دون ما خوف أو هلع أو خشية، جاءوا مرفوعي الرأس بما منحهم الله من نصر، وكانوا يعانون من الظلم والرهق والعناد الذي كانت تواجههم به مجتمعات الكفر، فلقد رفعت غزوة بدر من معنويات المسلمين، فشد الله أزرهم بذلك، فازدادوا بذلك نصرًا فوق نصرهم،
وأثناء تهنئة وفود المدينة للرسول وصحبة، قال لهم أحد المقاتلين، وهو سلمه بن سلامة، ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا ابن أخي، أولئك الملا، وقد قصد -رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم الأشراف، وفي ذلك ما فيه من معاني العزة الإسلامية، فوصف سلمة بن سلامة لصناديد المشركين أثناء القتال بأنهم عجائز صلع كالبدن، يدل على مدى القوة التي منحها الإسلام العظيم لجنود بدر، بحيث كان كل جندي يستصغر فراعين قريش، وكفارها العتاة، الذين أذاقوا ضعاف المسلمين في مكة سوء العذاب، فقد كانوا هم الأشراف، وكانوا يعاملون المسلمين بأسوء أشكال العنف والاضطهاد.
12- أخبار الهزيمة تصل اهل مكة:
أما مكة فقد تلقت خبر الهزيمة وعم الذهول أرجاء مكة آنذاك، فعندما تلقى المشركون النبأ لم يصدقوا الأمر بادئ ذي بدء، حيث كانوا يتهمون ناقلي الأخبار بالجنون، فما كان يخطر ببالهم أن ينتصر المسلمون، وما كانوا يتصورون أن ألف مقاتل يضم خيرة شباب قريش وأمهر قادتها وأشجع زعمائها سوف يولون الأدبار أو يقتلون أو يصابون بما لم يعهدوه من الخسارة والهزيمة، بل الهزيمة النكراء أمام ثلاثمائة مقاتل من المسلمين، وكان أول من وصل من بدر على مكة، الحيسمان بن أياس الخزامي، الذي كان أول الفارين، وقد تجمع حوله الناس يسألونه عن نتيجة المعركة، فأبلغهم خبر الهزيمة التي نزلت بجيش مكة، وبينما كان يعدد لهم بعض أسماء الصرعى من زعماء مكة وقادتها وقف عليه صفوان بن أمية، وهو أحد زعماء المشركين الذين لم يشهدوا بدراً فذهل وانقلب به الوعي، إلا أن كبرياءه وعتوه وعناده وبغضه للمسلمين آنذاك، حاد به عن تصديق الأمر، فعاد يكذب الحيسمان وأخباره، وراح يؤكد لمن حضر من القرشيين أنه مجنون.
أمّا هذه الأنباء اختلط الحابل بالنابل في مكة، فهاج عامة الناس، واختلطت أقوالهم وتحليلاتهم للموقف وما عاد المرء منهم يعرف صوابه لهول الصدمة وعنف الخبر، وقد زاد الأمر تأكيداً عليهم، مجيء ابن سفيان بن الحارث، وهو أحد القادة المشركين الكبار، الذين قادوا المعركة وأداروها، وترأسوا دفة القتال ضد المسلمين في المعركة، فبدأ أقواله بجميع ما أخبرهم به الحيسمان، وأدلهم على هزيمة فرسان الشرك وجيوشه أمام النصر الساحق للمسلمين القلة.
وهكذا تأكد خبر الهزيمة، حيث عرف كل بيت في مكة بمصابه، وعرف المقتولين منه، فقامت المناحات، إلا أن زعماء مكة أصدروا أمرًا بأن لا ينوح أحد على قتيل من قتلى هذه المعركة، وطلبوا من جميع الناس التزام الصمت والسكوت مع إظهار الجلد، وقد دفعهم إلى ذلك رغبتهم في عدم شمات المسلمين بهم، والحق أن نتيجة المعركة كانت فاجعة أليمة في مكة، فلم يكد ينجو بيت هناك من مأتم على قتيل.
13- التشاور حول قضية الاسرى:
في الوقت الذي كانت فيه الحروب الجاهلية لا تعرف أبسط قواعد أخلاقيات الحرب، ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بمبادئه العسكرية، ليشرع للعالمين تصورًا شاملاً لحقوق الأسرى في الإسلام.
لقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم وزرائه في أسارى بدر فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم فدية ، فهم بنو العم والعفو عنهم أحسن، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام. وقال عمر رضي الله عنه : لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها!!
فهوي النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر. وأنزل الله تعالى قوله: ] مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ[.
كان هذا الخُلق الكريم الذي غرسه المعلم الكبير محمد صلى الله عليه وسلم في أصحابه وجنده وشعبه، قد أثر في إسراع مجموعة من كبراء الأسرى وأشرافهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقب معركة بدر، بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة، وتنفيذ وصيته صلى الله عليه وسلم ، وأسلم معه السائب بن عبيد.وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون عن الرسول ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير
14- آثــار الغــزوة:
أكدت نتائج المعركة على المفهوم القائل بأن الذي يحارب دفاعاً عن عقيدته ( ايمان عقدي وفكري ) يكون أقوى ممن يحارب لأسباب أخرى اقتصادية أو عرقية أو سواها ويكفي أن المسلمين كانوا 314 رجلاً في مواجهة 950 رجلاً من المشركين .
الأثر الأعظم لغزوة بدر هو أنها كانت إيذاناً ببروز قوة جديدة نامية وفعّالة. تشغل هذه القوة منطقة جغرافية مهمة ، منطقة المدينة المنورة، ذات الموقع المتميز جيوبولتيكياً على أكثر من مستوى
تمكنت قوة المسلمين الجديدة من التحكم في شبكة الطرق البرية والبحرية الرابطة بين الشام ومصر من جهة ، ووسط الحجاز وجنوبه من جهة أخرى، وقد ترتب على هذا ارتفاع أسعار السلع الشامية والمصرية في مكة المكرمة ، وتراجع الطلب على المنتجات المكية المحلية
خلطت نتائج المعركة أوراق الأحلاف القبلية المحلية ، وأثّرت في الأحلاف الدولية ( الغساسنة والروم من جهة والمناذرة والفرس من جهة أخرى) ويمكن النظر إلى هذا الأمر بوصفة تهديداً للعلاقات الجيوبولتيكية العربية الرومية والفارسية .
محلياً أعادت كثير من القبائل أو بطون منها النظر في تحالفاتهم السابقة ، واختارات الحياد أو التحالف مع المسلمين ، أو مواددتهم كما استمر بعض آخر في مناصرة التحالف القرشي كما هو حال ثقيف وهوازن وغطفان
وإلى جانب ذلك، فقد كسب المسلمون مهارة عسكرية، وأساليب جديدة في الحرب، وشهرة واسعة في داخل الجزيرة العربية وخارجها، إذ أصبحوا قوة يحسب لها حسابها في بلاد العرب, فلا تهدد زعامة قريش وحدها، بل زعامة جميع القبائل العربية المنتشرة في مختلف الأصقاع والأماكن، كما أصبح للدولة الجديدة مصدر للدخل من غنائم الجهاد؛ وبذلك انتعش حال المسلمين المادي والاقتصادي بما أفاء الله عليهم من غنائم بعد بؤس وفقر شديدين داما تسعة عشر شهرًا
ومن آثار المعركة أنها أرست أسساً جديدة في التعامل إثر الحروب مثل إطلاق سراح أسرى مقابل تعليمهم عدداً من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ، إنه الأمن الثقافي والتعليمي الذي يحتاجه وسوف تحتاجه الدولة الإسلامية الوليدة في أعمال بيت المال والدواوين ومضابط الخراج وسواها
استخدمت في المعركة تكتيكات عسكرية جديدة مثل الحيلولة بين المشركين والماء ، وقد ثبت جدوى ذلك في غزوات وحروب لاحقة